وهكذا .. يرى الذاكر بنور اليقين , ما غاب عن أفهام الغافلين , ويدرك بكثرة الذكر مواقع الأسماء والصفات , ولا يزال يتقلب في خلع التجليات , إلى أن تنقله العناية إلى الاتصاف بالأسماء والصفات , وهكذا يسير في سماء العلم والحكمة على نور من ربه , والحُبُب تتفتق من حوله شيئا فشيئا , حتى يقع الشهود , فإذا حصل الشهود , اسُتغنى عن الذكر بمشاهدة المذكور.
وهنا يقف القلم عاجزا عن وضع المعانى في الألفاظ , حيث لا قدرة لكل أذن على سماع مثل هذا الكلام . ولهذا يتجلى الله بأسمائه لعباده , فترى آثارها في صورهم , وألوانهم , وأحوالهم , وأمزجتهم , وتطوراتهم .
وللأسماء تجليات شتى , وأسرار لا تنتهي , وإن تناهت الأيام والأعمار " أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شئ ؟ "فإن من تلك التجليات اختلاف الليل والنهار , والشمس والقمر , والنجوم المسخرات , وتنوع المخلوقات , في الصور واللغات , وتعدد الأشكال والألوان , وتطور الأحوال في الإنسان والحيوان , والنبات والجماد , وغير ذلك من بدائع المخلوقات , وروائع المصنوعات .
وعظمة الأسماء أكبر من أن يكشف عنها نقاب , أو يصل إلى عظمتها أولو الألباب " هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ".
فانظر ــ رعاك الله ــ إذا حصل لك قبض ماذا تصنع ؟ تقول : ياباسط اصرف عني ما أنا فيه . وإذا كنت عاصيا تقول : ياتواب تُب على . وإذا كنت مريضا تقول : يا شافي أشفني . وإذا كنت ضعيفا تقول : يا قوى قوني . وإذا كنت ضالا تقول : يا هادي إهدني . وإذا عطشت طلبت الماء ممن أنزله من السماء .
وإذا بحثنا عن لذائذ الحياة وجدناها تدفعنا إلى الرذائل والآثام . فمن فتح للشر باب فُتحت أمامه أبواب , وهذه نزوات لا يطرق بابها أحد إلا يسر له أسبابها الشيطان , وأغراه من فنونها بألوان وألوان . فلندع الدنيا ولذائذها , ولتسبح في ملكوت الأسماء اشتغالا بالله عما سواه .
فإذا ذكرنا ( الله ) علمنا أنه مقدس في ذاته وصفاته , وافعاله وأحكامه , وأنه ــ عز شأنه ــ باق ببقائه . والله سبحانه ظاهر ــ من حيث الصفات والأسماء ــ في صور الأشياء من غير أن يحل في شئ , أو أن يحل فيه شئ , وإذا قلنا ( رحمن ) أيقنا أنه ــ سبحانه وتعالى ــ مصدر الرحمة والحنان . وحين نقول : ( رزاق ) نعلم أنه ــ وحده ــ المتكفل بالأرزاق ؛ وهكذا نذكر بقية الأسماء على هذا السياق.
والسعيد من وفقه الله , فاشتغل بطاعة مولاه , غير معتمد على عمله وتقواه . ومن أراد الارتقاء فليعلم أن صفات الله تدرك إلا بعد معرفة تأثيرها في الموجودات . وبقدر مراتب العلم تكون درجات المعرفة . ومثال ذلك ــ عند ذكر أسمه تعالى ( رزاق ) ــ نتصور : كم من ملك وإنس وجان , ونبات وحيوان , وغير أولئك , يُرزقون من أقوات المشاهدات , ما به حياتهم ؛ ويُسقون من رحيق المكاشفات , مابه بقاؤهم . وتعجب معي ــ سيدي ــ كيف خلق الله " الأرض في يومين " .. " وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين " ! وسبحان من كان ولا موجود غيره , ولا رازق سواه .
ولعل من حكمة الله في ذكر أسمائه أن نتخلق بها : فنتخلق من الكريم بالكرم , والحليم بالحلم , ومن الودود بالوداد , وهكذا باقي الأسماء , وفق الأمر الوارد في قوله صل الله عليه وسلم : ( تخلقوا بأخلاق الله ) , ومعنى هذا : أن جميع أسماء الله للتخلق بها , كظهور الإمهال على من تخلق بالحلم , وعدم المؤاخذه على من تخلق بالعفو , والعطاء على من تخلق بالجود .. وهكذا يكون باقي الأسماء . ( يتبع )
أنتظروا الجزء الرابع بمشيئة الله تعالى
أسألكم الدعاء أختكم هبه
ليست هناك تعليقات: